فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كان الأخ في الله يخلف أخاه في أهله إذا مات أربعين سنة وكان الرجل إذا أراد شين أخيه طلب حاجته من غيره خرج إبراهيم بن أدهم رحمه الله في سفر ومعه ثلاثة نفر فدخلوا مسجدا في بعض المفاوز والبرد شديد وليس للمسجد باب فلما ناموا قام إبراهيم فوقف على الباب إلى الصباح فقيل له لم تنم فقال خشيت أن يصيبكم البرد فقمت مقام الباب وجاء رجل من السلف إلى بيت صديق له فخرج إليه فقال ما جاء بك قال علي أربعمائة درهم فدخل الدار فوزنها ثم خرج فأعطاه ثم عاد إلى الدار باكيا فقالت زوجته هلا تعللت عليه إذا كان إعطاؤه يشق عليك فقال إنما أبكي لأني لم أفتقد حاله فاحتاج أن يقول لي ذلك.
هل تحسان لي رفيقا رفيقا ** أو تصيبان لي صديقا صدوقا

قد فشا الغدر والخيانة في الناس ** فما إن رأى رفيقا شفيقا

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك بسنده عن رباح بن الجراح قال جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده في المنزل فقال للخادمة أخرجي لي كيس أخي فأخرجته ففتحه فأخذ منه درهمين وجاء عيسى فأخبرته الخادمة فقال إن كنت صادقة فأنت حرة فنظر فإذا هي صادقة فعتقت أخبرنا أبو بكر بن حبيب قال أبو سليمان الداراني كان لي أخ في الله عز وجل فقلت له يوما أعطني دراهم فقال كم تريد فسقط من عيني وخرجت أخوته من قلبي بقوله كم تريد واعلم أنه إذا علت مرتبة الأخوة وقع فداء الأخ بالنفس أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بسنده عن محمد بن داود قال سمعت أبا بكر القرطبي وأبا عمرو الأدمي يقولان وكانا يتآخيان في الله تعالى خرجنا من بغداد نريد الكوفة فلما سرنا في بعض الطريق إذا نحن بسبعين رابضين على الطريق فقال أبو بكر لأبي عمرو أنا أكبر منك سنا فدعني أتقدمك فإن كان حادثة اشتغلا بي عنك وجزت أنت فقال له أبو عمرو نفسي ما تسامحني بهذا ولكن نكون جميعا في مكان واحد فإن كانت حادثة كنا جميعا فجازا جميعا بين السبعين فلم يتحركا ومرا سالمين وركب أخوان في الله تعالى في البحر فكسر بهما المركب فجعلا يسبحان ويتعلق أحدهما بالآخر فقال أحدهما للآخر إن تعلقت بي هلكنا جميعا فدعني فربما سلم أحدنا فقال ظننت أني أنا أنت فإذا وقع الفراق فنعم فتنحى عنه فقدرت لهما السلامة فلم يصحبه ذلك باقي عمره إخواني نسخ في هذا الزمان رسم الأخوة وحكمه فلم يبق إلا الحديث عن القدماء فإن سمعت بإخوان صدق فلا تصدق.
ما هذه الألف التي قد زدتم ** فدعوتم الخوان بالإخوان

ما صح لي أحد أصيره أخا ** في الله حقا لا ولا الشيطان

إما مول عن ودادي ما له ** وجه وإما من له وجهان

.الكلام على قوله تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم}:

في المراد بهذا الذكر ثلاثة أقوال أحدها أنه الذكر في الصلاة يصلي الإنسان قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب هذا قول علي وابن مسعود وابن عباس وقتادة والثاني أنه ذكر في الصلاة وغيرها والثالث أنه الخوف فالمعنى يخافون الله في جميع تصرفاتهم.
أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن أبي صالح قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن جاءني يمشي جئته هرولة». أخرجاه في الصحيحين.
وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبق المفردون» قالوا: وما المفردون؟ قال: «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات».
وفي أفراده من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده».
وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجه الله إلا ناداهم مناد من السماء قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار بسنده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تعالى تنادوا هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء قال فيسألهم ربهم تبارك وتعالى- وهو أعلم بهم ما يقول عبادي قالوا يذكرونك ويسبحونك ويحمدونك قال وهل رأوني فيقولون لا والله يا رب ما رأوك قال فيقول فكيف لو رأوني قال فيقولون لو أنهم رأوك لكانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر تسبيحا قال فيقول وما يسألوني قالوا يسألونك الجنة قال فيقول وهل رأوها فيقولون لا والله يا رب ما رأوها فيقول فكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة فيقول فمم يتعوذون قال يقولون من النار قال يقول فهل رأوها قال فيقولون لا والله ما رأوها قال يقول كيف لو رأوها قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة فيقول هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم أخرجاه في الصحيحين وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يقول أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام وفي حديثه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة قال مجالس الذكر وكان داود عليه الصلاة والسلام يقول إلهي إذا مررت على ملأ يذكرونك فجاوزتهم فاكسر الرجل التي تليهم.
واعلم أن الذاكرين تختلف أحوالهم فمنهم من يؤثر قراءة القرآن ويقدمه على كل ذكر وقد كان فيهم من يختم كل يوم ومنهم من يختم ختمتين ومنهم من أكثر ذكره التهليل والتسبيح والتحميد ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في كل يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك ومن قال في يومه مائة مرة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر وقال سعيد بن عبد العزيز قلت لعمر بن هانئ أرى لسانك لا يفتر من ذكر الله عز وجل فكم تسبح كل يوم قال مائة ألف إلا أن تخطئ الأصابع وقال محمد بن ثابت البناني ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت يا أبت قل لا إله إلا الله فقال يا بني خل عني فإني في وردي السادس أو السابع.
ذكرك لي مؤنس يعارضني ** يعدني عنك منك بالظفر

وكيف أنساك يا مدى هممي ** وأنت مني بموضع النظر

ومن الذاكرين من غلب على قلبه حب المذكور فلا يزال في الذكر والتعبد أخبرنا ابن حبيب بسنده قال سمعت فاطمة أخت أبي علي الروذباري تقول: سمعت أخي يقول سمعت الجنيد يقول ما رأيت أعبد لله من سري السقطى أتت عليه ثمان وسبعون سنة ما رئي مضطجعا إلا في علة الموت ومن الذاكرين من صار الذكر له إلفا لا عن كلفة فما له هم غيره فهو يذكر أبدا على جهة الحضور وقال مجمش الجلاب صحبت أبا حفص النيسابوري اثنتين وعشرين سنة فما رأيته ذكر الله تعالى على حد الغفلة والانبساط ما كان يذكر الله إلا على سبيل الحضور والحرمة والتعظيم وكان إذا ذكر الله تعالى تغير عليه حاله حتى كان يرى ذلك جميع من حضره وقال بعض السلف صحبت في طريقي رجلا أسود فكان إذا ذكر الله تعالى ابيض.
وشغلت عني فهم الحديث سوى ** ما كان منك وعندكم شغلي

وأديم نحو محدثي نظري ** أن قد فهت وعندكم عقلي

أين أهل الأذكار أين قوام الأسحار أين صوام النهار خلت والله منهم الديار وامتلأت بهم القفار فصل إليهم وصل عليهم فهم الأحرار.
سلام على أهل الحمى عدد الرمل ** وقل له التسليم من تائق مثلي

وقفت وقوف الغيث بين طلوله ** بمنسكب سح ومنهمل وبل

وما رمت حتى خالني الريم رمة ** وأذرف أطيار الحمى الدمع من أجلي

خليلي قد غدبتماني ملامة ** كأن لم يطف في دمنة أحد قبلي

فلا برحت عيني تنوب عن الحيا ** بدمع على تلك المناهل منهل

ليالي لا روض الكثيب بلا ندى ** ولا شجرات الأبرقين بلا طل

.السجع على قوله تعالى: {الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم}:

سبحان من قضى على الغافلين كسلًا وقعودًا ورفع المتقين علوًا وصعودًا ومنحهم من إنعامه فوزًا وسعودًا بمطلوبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} أنعم عليهم فأعطاهم واستخلصهم واصطفاهم وقليل ما هم اشتغل الناس بدنياهم واشتغلوا بذكر محبوبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} قنعوا بأدون المطعم واللباس وألقوا نفوسهم في المساجد كالأحلاس يمشون بالسكينة بين الناس وما دروا بهم في دروبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} اكتفوا من الليل بيسير النوم واشتغلوا بالصلاة وبالصوم وكانت والله همم القوم في صلاح قلوبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} تناولوا لقم الترتيل وقالوا هذه للجوع تزيل فهم يقنعون بالقليل في مطعومهم ومشروبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} قاموا قيام المستعد ووردوا بحر الجود العد وتسلحوا سلاح العزم والجد في جميع حروبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} لبسوا ثياب السفر ورحلوا على أكوار السهر فلو سمعت وقت السحر ترنم طروبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم}
تناولوا كؤوس الدمع يتجرعون فلو رأيتهم في طريق الخضوع يتضرعون والقوم يقلقون ويضرعون في ستر عيوبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} يستغيثون إلى الحق ويشكون واليتامى في الذل يحكون وجملة الأمر أنهم يبكون على قبح مكتوبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} يعتذرون من زلل القدم ويتمنون بعد الوجود العدم وقد بعثوا رسالة الندم مع مندوبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} قلبتهم الأشجان وغيرتهم الأحزان ينزعجون لما قد كان من سالف ذنوبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} أما الليل فسهارى وأما النهار فأسارى وكأنهم بالمحبة سكارى في شروقهم وغروبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} لو أصغيت في الدجى واستمعت وأحضرت قلبك عندهم وجممت وهيهات ليتك اطلعت على بعض كروبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم} كانت رقدة ثم بقيت النياحة فانتقلوا من حضرة الحظر إلى الإباحة واستبدلوا بالرياضة الراحة فلم يبق أثر لجدوبهم {يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (37):

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الاختيال والفخر على الفرح بالأعراض الفانية والركون إليها والاعتماد عليها، فكانا حاملين على البخل خوفًا من زوالها؛ قال واصفًا لهم بجملة من الأخلاق الرديئة الجلية، ذلك منشأها: {الذين يبخلون} أي يوقعون البخل بما حملهم من المتاع الفاني على الفخار، وقصره ليعم كتم العلم ونحوه؛ ثم تلا ذلك بأسوأ منه فقال: {ويأمرون الناس بالبخل} مقتًا للسخاء، وفي التعبير بما هو من النوس إشارة إلى أنهم لا يعلقون أطماعهم بذلك إلا بذوي الهمم السافلة والرتب القاصرة، ويحتمل أن يكون الأمر كناية عن حملهم غيرهم على البخل بما يرى من اختيالهم وافتخارهم عليهم؛ ثم أتبع ذلك أخبث منه، وهو الشح بالكلام الذي لا يخشى نقصه وجحد النعمة وإظهار الافتقار فقال: {ويكتمون ما أتاهم الله} أي الذي له الجلال والإكرام {من فضله} أي من العلم جاحدين أن يكون لهم شيء يجودون به.
قال الأصبهاني: ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر، مثل أن يظهر الشكاية لله سبحانه وتعالى ولا يرضى بالقضاء.
ثم عطف على {إن الله لا يحب} ملتفتًا إلى مقام التكلم، دلالة على تناهي الغضب وتعيينًا للمتوعد، مصرحًا بمظهر العظمة الذي دل عليه هناك بالاسم الأعظم قوله: {وأعتدنا} أي أحضرنا وهيأنا، وكان الأصل: لهم، ولكنه قال- تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف، وإعلامًا بأن ذلك حامل على الكفر-: {للكافرين} أي بفعل هذه الخصال كفرًا حقيقيًا بما أوصلهم إليه لزوم الأخلاق الدنية، أو مجازيًا بكتمان النعمة {عذابًا مهينًا} أي بما اغتروا بالمال الحامل على الفخر والكبر والاختيال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر». اهـ.